سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} شروع في تنزيه ساحةِ التنزيل عن تعلق ريبٍ خاصَ اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيانٌ لحكمته، وتحقيقٌ للحق إثرَ تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدِّي، وإلقامِ الحجر، وإفحامِ كافة البلغاء من أهل المدَر والوبَر. روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المنافقين طعَنوا في ضرب الأمثال بالنارِ والظلماتِ والرعدِ والبرق، وقالوا: الله أجلُّ وأعلى من ضرب الأمثال. وروى عطاءٌ رضي الله عنه: أن هذا الطعنَ هذا كان من المشركين.
ورُوي عنه أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى: {يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} الآية، وقوله تعالى: {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} الآية، قالت اليهود: أيُّ قدْرٍ للذباب والعنكبوت حتى يضرِب الله تعالى بهما وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونِه من عند الله تعالى، مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تمييزٌ أنه ليس مما يتصور فيه الترددُ فضلاً عن النكير، بل هو من أوضح أدلةِ كونِه خارجاً عن طَوْق البشر، نازلاً من عند خلاق القُوى والقدَر، كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس إلا إبرازاً للمعنى المقصودِ في معرض الأمرِ المشهود، وتحلية المعقولِ بحِلْية المحسوس، وتصويرُ أوابد المعاني بهيئة المأنوس، لاستمالة الوهم واستنزالِه عن معارضتِه للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية، وفهمِ الدقائق الأبية، كي يتابعَه فيما يقتضيه ويشايعُه إلى ما يرتضيه، ولذلك شاعت الأمثالُ في الكتب الإلهية والكلمات النبويةِ وذاعت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء، ومن قضية وجوبِ التماثل بين الممثَّل والممثَّل به في مناط التمثيل تمثيلُ العظيم بالعظيم، والحقير بالحقير، وقد مُثل في الإنجيل غلُّ الصدر بالنُخالة، ومعارضةُ السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عبارات البلغاء: أجمعُ مِنْ ذرةٍ، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قُراد، وأضعفُ من بعوضة، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر.
والحياء تغيُر النفس وانقباضُها عما يُعاب به أو يُذم عليه، يقال: حيي الرجل وهو حَيِيٌّ، واشتقاقه من الحياة اشتقاقَ شظِي وحشِي ونسِيَ من الشظي والنسْي والحشي، يقال: شظِي الفرس ونسي وحشي إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحياء تعتل قوتُه الحيوانية وتنتقص، واشتكى بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر، يقال: استحييتُه واستحييتُ منه، والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر، وقد يحذف منه إحدى الياءين، ومنه قوله:
ألا يستحي منا الملوك ويتقى *** محارمَنا لا يبوء الدمُ بالدم
وقولُه:
إذا ما استحَيْنَ الماءَ يعرِضُ نفسه *** كَرَعن بسبْتٍ في إناءٍ من الورد
فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستحْيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه»
وقوله عليه السلام: «إن الله حِييّ كريمٌ يستحيي إذا رفع إليه العبدُ يديه أن يُردَّهما صِفراً حتى يضع فيهما خيراً»، يراد به الترك الخاصُّ على طريقة التمثيل حيث مُثل في الحديثين الكريمين تركهُ تعذيبَ ذي الشيبة، وتخييبُ العبد من عطائه بترك مَنْ يتركهما حياءً، كذلك إذا نُفي عنه تعالى في المواد الخاصة كما في هذه الآية الشريفة، وفي قوله تعالى: {والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق} يراد به سلبُ ذلك التركِ الخاصِّ المضاهي لترك المستحي عنه، لا سلبُ وصفِ الحياء عنه تعالى رأساً، كما في قولك: إن الله لا يوصف بالحياء، لأن تخصيصَ السلب ببعض الموادِّ يوهم كونَ الإيجاب من شأنه تعالى في الجملة، فالمراد ههنا عدمُ ترك ضربِ المثل المماثل لترك من يستحي مِنْ ضَرْبه، وفيه رمز إلى تعاضُد الدواعي إلى ضربه وتآخُذ البواعث إليه، إذ الاستحياءُ إنما يُتصور في الأفعال المقبولة للنفس، المرضية عندها، ويجوز أن يكون ورودُه على طريقة المشاكلة، فإنهم كانوا يقولون: أما يستحي ربُّ محمدٍ أن يضرِب مثلاً بالأشياء المُحَقّرة، كما في قول من قال:
مَنْ مبلغٌ أفناءَ يعرُبَ كلَّها *** أني بنيتُ الجارَ قبل المنزل
وضرب المثل استعمالُه في مضرِبه وتطبيقُه به لا صنعُه وإنشاؤه في نفسه، وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرةِ في مواردها ضرباً لها دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها، لفقدان الإنشاء هناك. والأمثالُ الواردة في التنزيل وإن كان استعمالُها في مضاربها عينَ إنشائها في أنفسها، لكن التعبيرَ عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار، بل بالاعتبار الأولِ قطعاً، وهو مأخوذ إما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق، فكما أن ضربَه تطبيقُه بقالبه، كذلك استعمالُ الأمثال في مضاربها تطبيقُها بها، كأن المضاربَ قوالبُ تُضرب الأمثالُ على شاكلتها، لكن لا بمعنى أنها تنشأ بحسَبها بعد أن لم تكنْ كذلك، بل بمعنى أنها تورَدُ منطبقة عليها سواءٌ كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثالِ التنزيلية، فإن مضاربها قوالبُها، أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة، فإنها وإن كانت مصنوعةً من قبلُ إلا أن تطبيقها أي إيرادَها منطبقةً على مضاربها إنما يحصُل عند الضرب، وإما من ضرب الطين على الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق، كأنه من يستعملها يُلصِقها بمضاربها ويجعلها ضربةَ لازب لا تنفك عنها لشدة تعلّقها بها.
ومحلُّ {أن يضرب} على تقدير تعدية يستحي بنفسه النصبُ على المفعولية، وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفضُ بإضمار مِن، وعند سيبويه النصبُ بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها، و{مثلاً} مفعول ليضرب، وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاماً وشياعاً، كما في قولك: أعطني كتاباً ما، كأنه قيل مثلاً ما من الأمثال، أيَّ مثلٍ كان. فهي صفة لما قبلها، أو حرفية مزيدة لتقوية النسبةِ وتوكيدها كما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} وبعوضةً بدل من مثلاً أو عطف بيان عند من يجوِّزه في النكرات، أو مفعول ليضرب ومثلاً حال تقدمت عليها لكونها نكرة، أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي هو بعوضة.
والجملة على تقدير كون ما موصولةً صلة لها محذوفة الصدر كما في قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ} على قراءة الرفع، وعلى تقدير كونها موصوفة لها كذلك، ومحل ما، على الوجهين النصبُ على أنه بدل من مثلاً، أو على أنه مفعول ليضرب، وعلى تقدير كونِها إبهاميةً صفةٌ لمثَلاً كذلك، وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهي خبرٌ لها، كأنه لما رُدّ استبعادُهم ضربَ المثل قيل: ما بعوضة، وأيُّ مانع فيها حتى لا يُضرب بها المثل، بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع في قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سقى الكافرَ منها شربة ماء» والبعُوض فعُول من البعض وهو القطع كالبَضْع والعَضْب غلب على هذا النوع كالخُموش في لغة هذيل من الخمش وهو الخَدْش.
{فَمَا فَوْقَهَا} عطف على بعوضة على تقدير نصبها على الوجوه المذكورة وما موصولة أو موصوفة صلتَها أو صفتُها الظرفُ، وأما على تقدير رفعها فهو عطفٌ على ما الأولى على تقدير كونِها موصولةً أو موصوفة، وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهو عطفٌ على خبرها أعني بعوضة لا على نفسها كما قيل، والمعنى ما بعوضة فالذي فوقها أو فشيءٌ فوقها، حتى لا يُضْرَب بها المثل، وكذا على تقدير كونِها صفةً للنكرة أو زائدة، وبعوضة خبرٌ للمضمر، وذكرُ البعوضة فما فوقها من بين أفراد المَثَل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص، فلا يُخل بالشيوع بل يقرّره ويؤكده بطريق الأولوية، والمراد بالفوقية إما الزيادةُ في المعنى الذي أريد بالتمثيل أعني الصِّغَر والحقارة، وإما الزيادةُ في الحجم والجُثة لكن لا بالغاً، بل في الجملة كالذباب والعنكبوت.
وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ما الثانية خاصة استفهاميةً إنكارية والمعنى: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فأيَّ شيء فوقها في الصغر والحقارة، فإذن له تعالى أن يمثّل بكل ما يريد، ونظيرُه في احتمال الأمرين ما رُوي أن رجلاً بمِنىً خرَّ على طُنُب فُسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها حين ذكر لها ذلك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يُشاك شوْكةً فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة ومُحِيَتْ عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في القِلة كنَخْبة النملة بقوله عليه السلام: «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارةٌ لخطاياه حتى نَخبةُ النملة»
وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكي من الحَرور.
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ} شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحُكم إثرَ تحقيق حقية صدوره عنه تعالى. والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها، كأنه قيل: فيضرِبه فأما الذين الخ، وتقديمُ بيانِ حال المؤمنين على ما حكي من الكفرة مما لا يفتقر إلى بيان السبب، وفي تصدير الجُملتين بأما من إحْماد أمرِ المؤمنين وذمِّ الكفرة ما لا يخفى، وهو حرف متضمنٌ لمعنى الشرط، وفعلُه بمنزلة مهما يكن من شيء، ولذلك يُجاب بالفاء، وفائدتُه توكيد ما صُدِّر به وتفصيلُ ما في نفس المتكلم من الأقسام، فقد تُذكر جميعاً وقد يُقتصر على واحد منها، كما في قوله عز من قائل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الخ، قال سيبويه: (أما) زِيد معناه مهما يكن من شيء فهو ذاهب لا محالة، وأنه منه عزيمة، وكان الأصلُ دخولَ الفاء على الجملة لأنها الجزاءُ لكن كرِهوا إيلاءَها حرفَ الشرط، فأدخلوها الخبرَ وعُوِّض المبتدأ عن الشرط لفظاً، والمراد بالموصول فريقُ المؤمنين المعهودين كما أن المرادَ بالموصول الآتي فريقُ الكفرة لا مَنْ يؤمِنُ بضرب المثل، ومَنْ يكفرُ به، لاختلال المعنى أيْ فأما المؤمنين فيعلمون.
{فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ} كسائر ما ورد منه تعالى، والحقُّ هو الثابت الذي يحِق ثبوتُه لا محالة، بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابتُ مطلقاً، واللامُ للدلالة على أنه مشهود له بالحقية، وأن له حِكَماً ومصالحَ، ومن لابتداء الغايةِ المجازية، وعاملُها محذوفٌ وقع حالاً من الضمير المستكنِّ في الحق، أو من الضمير العائد إلى المثَل، أو إلى ضَرْبه، أي كائناً وصادراً من ربهم، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم، وللإيذان بأن ضرْبَ المَثَل تربيةٌ لهم، وإرشادٌ إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملةُ سادّةٌ مسدَّ مفعوليْ {يعلمون} عند الجمهور، ومسدُّ مفعولِه الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش، أي فيعلمون حقيتَه ثابتةً، ولعل الاكتفاءَ بحكاية علمهم المذكورِ عن حكاية اعترافِهم بموجبه كما في قوله تعالى: {والرسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهورِه المُغني عن الذكر.
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} ممن حُكيت أقوالُهم وأحوالُهم {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} أُوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهرُ قرينِه دلالةً على كمال غلوِّهم في الكفر، وترامي أمرِهم في العتو، فإن مجردَ عدمِ العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارِها، والاستهزاءُ به صريحاً وتمهيداً لتعداد ما نُعيَ عليهم في تضاعيف الجواب من الضلال والفِسقِ ونقضِ العهد وغيرِ ذلك من شنائعهم المترتبةِ على قولهم المذكور.
على أن عدمَ العلم بحقيّته لا يعمُّ جميعَهم، فإن منهم من يعلم بها، وإنما يقول ما يقول مكابرةً وعناداً، وحملُه على عدم الإذعان والقبولِ الشاملِ للجهل والعنادِ تعسفٌ ظاهر.
هذا وقد قيل كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون، ليطابقَ قرينَه ويقابلَ قسيمَه، لكن لما كان قولُهم هذا دليلاً واضحاً على جهلهم عُدل إليه على سبيل الكنايةِ ليكون كالبرهان عليه، فتأمل وكن على الحق المبين.
و{ماذا} إما مؤلفةٌ من كلمة استفهامٍ وقعتْ مبتدأ خبرُه ذا بمعنى الذي، وصلتُه ما بعده، والعائدُ محذوف، فالأحسنُ أن يجيء جوابُه مرفوعاً، وإما مُنَزَّلةٌ منزلةَ اسمٍ واحد بمعنى أيُّ شيء، فالأحسنُ في جوابه النصبُ، والإرادةُ نزوعُ النفسِ وميلُها إلى الفعل بحيث يحمِلها إليه أو القوةُ التي هي مبدؤه، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلاهما مما لا يتصور في حقه تعالى، ولذلك اختلفوا في إرادته عز وجل، فقيل إرادتُه تعالى لأفعاله كونُه غيرَ ساه فيها ولا مُكْرهٍ، ولأفعال غيرِه أمرُه بها، فلا تكون المعاصي بإرادته تعالى، وقيل هي علمُه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح، فإنه يدعو القادرَ إلى تحصيله، والحقُّ عبارةٌ عن ترجيح أحد طرفي المقدورِ على الآخر وتخصيصُه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه، وهي أعمُّ من الاختيار، فإنه ترجيحٌ مع تفضيل، وفي كلمة (هذا) تحقيرٌ للمشار إليه واسترذال له ومثَلاً نُصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى: {نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} وليس مرادُهم بهذه العظيمة استفهامَ الحكمةِ في ضرب المثل ولا القدْحَ في اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا، بل غرضُهم التنبيهُ بادعاء أنه من الدناءة والحقارةِ بحيث لا يليق بأن يتعلقَ به أمرٌ من الأمور الداخلةِ تحت إرادته تعالى، على استحالة أن يكون ضربُ المثل به من عنده سبحانه، فقوله عز من قائل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جوابٌ عن تلك المقالة الباطلة، وردٌّ لها ببيان أنه مشتملٌ على حكمةٍ جليلة وغايةٍ جميلة هي كونُه ذريعةً إلى هداية المستعدِّين للهداية، وإضلالِ المنهمكين في الغَواية، فوُضِعَ الفعلان موضعَ الفعل الواقع في الاستفهام مبالغةٌ في الدلالة على تحققهما، فإن إرادتَهما دون وقوعِهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في تعلقهما، وليس كذلك، فإن المرادَ بالذات من ضرب المثل هو التذكرُ والاهتداءُ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ونظائرُه.
وأمالإضلالُ فهو أمر عارضٌ مترتب على سوء اختيارهم، وأوثر صيغةُ الاستقبال إيذاناً بالتجدّد والاستمرار، وقيل: وُضع الفعلان موضعَ مصدرٍ، كأنه قيل: أراد إضلالَ كثيرٍ وهدايةَ كثير، وقُدِّم الإضلالُ على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أولُ ما يقرَعُ أسماعَهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءُهم ويفُتَّ في أعضادهم، وهو السرُّ في تخصيص هذه الفائدة بالذكر وقيل: هو بيانٌ للجملتين المصدّرتين بأما، وتسجيلٌ بأن العلم بكونه حقاً هدى، وأن الجهلَ بوجهِ إيرادِه والإنكارِ لحُسن موردِه ضلالٌ وفسوقٌ، وكثرةُ كل فريقٍ إنما هي بالنظر إلى أنفسها لا بالقياس إلى مقابليهم فلا يقدح في ذلك أقلية أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلالِ حسبما نطَق به قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور}، ونحو ذلك. واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافية لتكميل فائدة ضربِ المثل وتكثيرِها، ويجوز أن يراد في الأولين الكثرةُ من حيث العددُ وفي الآخَرين من حيث الفضلُ والشرفُ كما في قول من قال:
إن الكرامَ كثيرٌ في البلاد وإن *** قَلُّوا كما غيرهم قُلٌّ وإن كثروا
وإسنادُ الإضلال أي خلق الضلال إليه سبحانه مبنيٌّ على أن جميع الأشياء مخلوقةٌ له تعالى، وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم، وجعلُه من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريحُ بالسبب، وقرئ {يُضَلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثير} على البناء للمفعول، وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقريرِ السببية وتأكيدِها {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} أي بالمثل أو بضربه {إِلاَّ الفاسقين} عطف على ما قبله وتكملةٌ للجواب والردِّ وزيادةُ تعيينٍ لمن أريد إضلالُهم ببيان صفاتهم القبيحةِ المستتبعةِ له، وإشارةٌ إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائياً بل هو تثبيتٌ على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادةٌ فيه، وقرئ {وما يُضَل به إلا الفاسقون} على البناء للمفعول، والفِسق في اللغة الخروج، يقال: فسَقت الرُّطْبة عن قشرها والفأرةُ من جُحرها أي خرجت، قال رؤبة:
يذهبْن في نجدٍ وغَوْرا غائرا *** فواسقاً عن قصدها جوائرا
وفي الشريعة الخروجُ عن طاعة الله عز وجل بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرارُ على الصغيرة وله طبقاتٌ ثلاثٌ: الأولى التغابي وهو ارتكابُها أحياناً مستقبِحاً لها، والثانية الانهماكُ في تعاطيها، والثالثةُ المثابرة عليها مع جحود قُبحها، وهذه الطبقةُ من مراتب الكفر فما لم يبلُغْها الفاسقُ لا يُسلب عنه اسمُ المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} والمعتزلةُ لما ذهبوا إلى أن الإيمانَ عبارةٌ عن مجموع التصديقِ والإقرارِ والعملِ، والكفرَ عن تكذيب الحق وجحوده، ولم يتسنَّ لهم إدخالُ الفاسقِ في أحدهما فجعلوه قسماً بين قسمي المؤمن والكافر لمشاركته كلَّ واحد منهما في بعض أحكامه. والمرادُ بالفاسقين ههنا العاتون الماردون في الكفر، الخارجون عن حدوده ممن حُكي عنهم ما حُكي من إنكار كلامِ الله تعالى والاستهزاءِ به، وتخصيصُ الإضلالِ بهم مترتباً على صفة الفسق وما أجريَ عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدَّهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرَهم وعدولَهم عن الحق وإصرارَهم على الباطل صرَف وجوهَ أنظارِهم عن التدبر في حكمة المثَل إلى حقارة الممثَّل به حتى رسَخت به جهالتُهم وازدادت ضلالتُهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا.


{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} صفةٌ للفاسقين للذم وتقريرِ ما هم عليه من الفسق، والنقضُ فسخُ التركيب من المركبات الحسية كالحبْل والغزل ونحوهما، واستعمالُه في إبطال العهد من حيث استعارةُ الحبل له لما فيه من ارتباط أحدِ كلامي المتعاقدَيْن بالآخر، فإن شُفِعَ بالحبل وأريد به العهدُ كان ترشيحاً للمجاز، وإن قُرن بالعهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وتنبيهاً على مكانه، وأن المذكور قد استُعير له كما يقال: شجاعٌ يفترس أقرانَه، وعالمٌ يغترف منه الناسُ تنبيهاً على أنه أسدٌ في شجاعته وبحرٌ في إفاضته، والعهدُ: المَوْثِقُ، يقال: عهِد إليه كذا إذا وصّاه به ووثّقه عليه والمرادُ ههنا إما العهدُ المأخوذُ بالفعل وهو الحجة القائمةُ على عباده الدالةُ على وجوده تعالى ووَحدتِه وصدقِ رسولِه عليه السلام، وبه أُوّل قولُه تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى}، أو المعنى الظاهرُ منه أو المأخوذُ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسولٌ مصدِّقٌ بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتُموا أمرَه وذِكرُه في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حُكمه كما ينبىء عنه قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} ونظائرُه، وقيل: عهودُ الله تعالى ثلاثة، الأولُ ما أخذه على جميع ذريةِ آدمَ عليه السلام بأن يُقرّوا به وبربوبيته، والثاني ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام بأن يُقيموا الدينَ ولا يتفرقوا فيه، والثالث ما أخذه على العلماء بأن يُبينوا الحقَّ ولا يكتموه. {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} الميثاقُ إما اسمٌ لما يقع به الوَثاقة والإحكام، وإما مصدرٌ بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد، فعلى الأول إن رجَع الضمير إلى العهد كان المرادُ بالميثاق ما وثّقوه به من القَبول والالتزام، وإن رجع إلى لفظ الجلالة يُراد به آياتُه وكتبُه وإنذارُ رسلِه عليهم السلام، والمضافُ محذوفٌ على الوجهين، أي من بعد تحقّق ميثاقِه، وعلى الثاني إن رجَع الضميرُ إلى العهد، والميثاقُ مصدرٌ من المبني للفاعل فالمعنى من بعد أن وثّقوه بالقبول والالتزام، أو من بعد أن وثقه الله عز وجل بإنزال الكتب وإنذارِ الرسل، وإن كان مصدراً من المبني للمفعول فالمعنى من بعد كونه مُوَثقاً إما بتوثيقهم إياه بالقَبول وإما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذارِ الرسل.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يحتمل كلَّ قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحِمِ وعدمِ موالاة المؤمنين والتفرقةِ بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق، وتركِ الجماعات المفروضةِ وسائرِ ما فيه رفضُ خيرٍ أو تعاطي شر، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد، من الوصلة التي هي المقصودةُ بالذات من كل وصلٍ وفصل، والأمر هو القولُ الطالبُ للفعل مع العلو، وقيل: بالاستعلاء، وبه سمِّي الأمرُ الذي هو واحدُ الأمور تسميةً للمفعول بالمصدر، فإنه مما يؤمَر به كما يقال: له شأنٌ وهو القصدُ والطلب لما أنه أثَرٌ للشأن، وكذا يقال له شيء وهو مصدرُ شاء لما أنه أثرٌ للمشيئة، ومحلُّ {أن يوصل} إما النصبُ على أنه بدلٌ من الموصول أو من ضميره والثاني أولى لفظاً ومعنى.
{وَيُفْسِدُونَ فِى الارض} بالمنع عن الإيمان والاستهزاءِ بالحق وقطعِ الوصل التي عليها يدور فلكُ نظام العالم وصلاحُه {أولئك} إشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافِهم بما فُصل من الصفات القبيحة، وفيه إيذانٌ بأنهم متميزون بها أكملَ تميز ومنتظمون بسبب ذلك في سلك الأمور المحسوسة، وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم في الفساد {هُمُ الخاسرون} الذين خسروا بإهمال العقلِ عن النظر واقتناصِ ما يفيدهم الحياةَ الأبدية واستبدالِ الإنكار والطعنِ في الآيات بالإيمان بها والتأملِ في حقائقها والاقتباسِ من أنوارها واشتراءِ النقض بالوفاءِ والفسادِ بالصلاح والقطيعةِ بالصلة والعقاب بالثواب.


{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} التفات إلى خطاب المذكورين مبنيٌّ على إيراد ما عُد من قبائحهم السابقة لتزايد السَخَط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع، والاستفهامُ إنكاري لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الخ، بل المعنى إنكارُ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الكفرِ بأن يقال: أتكفرون، لأن كل موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البُرهاني، وقوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أمواتا} إلى آخر الآية، حالٌ من ضمير الخطاب في تكفرون مؤكدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما عُدِّد فيها من الشؤون العظيمة الداعيةِ إلى الإيمان الرادعةِ من الكفر من حيث كونُها نعمةً عامة ومن حيث دلالتُها على قدرة تامةٍ كقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} وكيف منصوبةٌ على التشبيه بالظرف عند سيبويه، وبالحال عند الأخفش، أي في أيِّ حال أو على أي حالٍ تكفُرون به تعالى، والحالُ أنكم كنتم أمواتاً أيْ أجساماً لا حياة لها، عناصرَ وأغذيةً ونُطفاً ومُضَغاً مخلّقةٍ وغيرَ مخلّقةٍ، والأمواتُ جمع ميت كأقوال جمع قيل، وإطلاقُها على تلك الأجسام باعتبار عدمِ الحياةِ مطلقاً كما في قوله تعالى: {بَلْدَةً مَّيْتاً} وقوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الارض الميتة} {فأحياكم} بنفْخِ الأرواحِ فيكم، والفاء للدلالة على التعقيب فإنّ الإحياءَ حاصلٌ إثرَ كونِهم أمواتاً وإنْ توارد عليهم في تلك الحالة أطوارٌ مترتبةٌ بعضُها متراخٍ عن بعض كما أشير إليه آنفاً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي عند انقضاءِ آجالِكم، وكونُ الإماتة من دلائل القدرةِ ظاهر، وأما كونُها من النعم فلكونها وسيلةً إلى الحياة الثانية التي هي الحيَوان والنعمةُ العظمى، والتراخي المستفادُ من كلمة {ثم} بالنسبة إلى زمان الإحياءِ دون زمان الحياة، فإن زمانَ الإماتةِ غيرُ متراخٍ عنه {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور يوم يُنفَخُ في الصور أو للسؤال في القبور، وأياً ما كان فهو متراخٍ من زمان الإماتة، وإن كان إثرَ زمانِ الموتِ المستمر {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشرِ لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر، أو إليه تُنْشرون من قبوركم للحساب، وهذه الأفعالُ وإن كان بعضُها ماضياً وبعضُها مستقبلاً لا يتسنى مقارنةُ شيءٍ منها لما هو حالٌ منه في الزمان، لكن الحالَ في الحقيقة هو العلم المتعلّقُ بها كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعةِ منه، ومآلُه التعجيبُ من وقوعه مع تحقق ما ينفيه، وإنما نُظم ما ينكرونه من الإحياء الأخيرِ والرَّجْعِ في سِلك ما يعترفون به من الإحياء الأولِ والإماتةِ تنزيلاً لتمكّنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعةِ منزلةَ العلمِ بذلك بالفعل في إزاحة العللِ والأعذار.
والحياةُ حقيقةٌ في القوة الحساسة أو ما يقتضيها، وبها سُمي الحيوان حيواناً، مجازٌ في القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فيما يخصُّ الإنسانَ من العقل والعلم والإيمان من حيث إنه كمالُها وغايتُها، والموتُ بإزائها يطلق على ما يقابل كلَّ مرتبة من تلك المراتب قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وقال تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس} وعند وصفِه تعالى بها يُراد صِحةَ اتصافِه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا، أو معنى قائمٌ بذاته تعالى مقتضٍ لذلك، وقرئ {تَرجِعون} بفتح التاء والأول هو الأليقُ بالمقام.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12